هل يمكن وصف الرياضيات بالصناعة الصحيحة في منطلقاتها و استنتاجاتها
هل المعيار الحقيقة في الرياضيات ، يكمن في البداهية و الوضوح ام في تناسق النتائج مع المقدمات
هل الرياضيات دقيقة
طرح الإشكالية : لقد كانت المعرفة الرياضية توصف بالصناعة الصحيحة و اليقينية و ذلك لأنها تدرس الكم بنوعيه المتصل وموضوعه الهندسية و المنفصل وموضوعه الحساب وتعتمد في ذلك على جملة من المفاهيم و المبادئ التي تضمن لها يقينية النتائج و هذا ما شكل محور نقاش و جدل بين الفلاسفة و العلماء اذ أكد بعضهم أن نتائج الرياضيات يقينية و مطلقة في كل الاحوال باعتبارها علم مجرد في حين أكد الاخرون أن الرياضيات نسبية من حيث النتائج خاصة ما شهدته من تعدد الانساق ، و عليه نتساءل هل اليقين الرياضي ثابت بصورة مطلقة ؟ أو بعبارة أخرى هل مبادئ الرياضيات ثابتة أم متغيرة ؟
محاولة حل المشكل :
الموقف الأول :يذهب أنصار الرياضيات الكلاسيكية "الاقليدية" على أن نتائج الرياضيات هي نتائج مطلقة في اليقين و ذلك انطلاقا من المبادئ التي تعتمد عليها و أساليب البرهنة التي لا تقبل الشك كما أن صدق المفاهيم الرياضية متوقف على اعتماد فكرة البداهة فهي لا تحتاج الى برهان ومن أهم البديهيات التي توصل لها أقليدس "الكل أكبر من الجزء " ، " اذا طرحنا كمية ثابتة من متساويين تبقى النتيجة متساوية مثلاً لدى احمد 5 تفاحات و مصطفى 5 تفاحات ايضاً ، الان ادا طرحنا كمية 2 تفاح لكل منها سيبقى كل منها لديه 3 تفاحات أيّ صارا متساويين من جديد و أكد ديكارت أن المبادئ في الرياضيات بديهيات و يتجلى دلك في قوله " لا أتقبل شيئا على أنه صحيح إلا اذا كان بديهيا " و عليه فمهمة الرياضي هي الاضافة وليست اعادة النظر ، كما أنه يرى أن الالتزام بمبادئ الرياضيات كما وضعها اقليدس هي ضمان اليقين الرياضي ، كما أكد سبينوزا أنه لا يمكن الشك في فكرة البداهة لأن الشك في البديهية يعني الشك في مبادئ العقل الفطرية "البديهية هي معيار الصدق و الكذب" .
و صدق المفاهيم مرتبط أيضا بالمسلمات التي يضعها العقل و يسلم بصدقها قصد البرهان ومن أمثالها أن المكان مستوي مسطح و نقطة خارجة المستقيم لا يمر إلا مواز واحد كما أنه مرتبط أيضا بطريقة التعريف الرياضي الذي اعتمده اقليدس في البرهان التحليلي و البرهان التركيبي و من بين التعريفات الرياضية نجد أن المثلث هو شكل ناتج عن تقاطع ثلاث مستقيمات فيما بينها و النقطة ليس لها طول و لا عرض و لا ارتفاع و الذي يثبت صدق المفاهيم الرياضية هو أنه لا أحد يتمكن من ابطال أي تعريف قدمه اقليدس كما قال بوانكري " ان الرياضيات تنفرد وحدها بالتعاريف و لا يمكن ابدا ان تخطأ و هذا ما يدلنا أن أساليب البرهنة في الرياضيات الكلاسيكية تعد معيار الصدق و قد أكد باسكال صدق و مطلقية المفاهيم الرياضية من خلال قوله " الهندسة هي الوحيدة من العلوم الانسانية التي تنتج براهين معصومة من الخطأ " و عليه أصبحت الرياضيات لغة لكل العلوم كما قال أوغست "الرياضيات هي آلة ضرورية لكل العلوم "
النقد : لقد وفق أصحاب هذا الطرح في عرضهم هذا خاصة و انهم بينوا لنا الجوانب التي تتجلي فيها يقينية و دقة الرياضيات، لكن ما يعاب عليهم أنهم بالغو كثيرا فيما ذهبوا إليه ، فعلى الرغم من أهمية الرياضيات الكلاسيكية الى أنه لا يمكن أن نقول أن الرياضيات يقينية خاصة مع ظهور الأعداد المركبة و الدوال اللوغارتمية و حالات عدم التعيين فهي تعتمد على الانسجام بين المقدمات و النتائج ولكن تطور الرياضيات المعاصرة ادى الى ظهور مفاهيم جديدة و هدا ما ادى الى تحطيم فكرة البداهة التي كانت معيار لصدق المفاهيم الرياضية .
الموقف التاني : يذهب انصار الرياضيات المعاصرة للتأكيد أن المفاهيم الرياضية ليست بمفاهيم مطلقة لأن ظهور النسق الاكسيومي حطم فكرة البداهة و جعل من الرياضيات تتميز بتعدد الانساق و التعدد يعني النسبية في اليقين و هذا ما أكده بولغان " ان كثرة الأنظمة في الهندسة لدليل على أن الرياضيات ليست فيها حقائق مطلقة " و هذا التعدد تجلى من خلال نسق العالم الروسي لوباتشفسكي الذي افترض أن المكان مقعر ومنه استنتج أن من نقطة خارج مستقيم يمكن أن يمر عدد لانهائي من المستقيمات الموازية و أن مجموع زوايا المثلث أقل من قائمتين وكذلك نسق العالم الالماني ريمان الذي افترض أن المكان محدب ومنه استنتج أن من نقطة خارج المستقيم لا يمر أي مستقيم موازي و أن مجموع زوايا المثلث أكثر من قائمتين وهذا يخالف المكان الذي وضعه اقليدس و أيضا ما قدمه جورج كانتور الذي اثبت أن الجزء يمكن أن يساوي الكل و بهذا حطم فكرة البداهة التي كانت تعد المقياس اليقيني للرياضيات
ان الحقائق الرياضية المتصفة باليقين عندما تنزل الى التطبيقات التجريبية تفقد دقتها و نقع في التقربيات مثلا عند تقدير العدد π تقديرا حسابيا 3،14 = π أي 7/22 و لكن التقييم الفعلي للـ 7/22 يساوي أكتر من 3،14 بدليل أن 3،14 × 7 لا يساوي 22 ، و بالتالي فإن العمليات الحسابية التي تترتب عليه تكون نسبية أي أن الرياضيات تنقلب الى التقريبات اذا ما اتجهنا الى الواقع و الدليل الثورة النسبية لأنشتاين التي أحدثت انقلابا و يقول " ان القضايا الرياضية بقدر ما ارتبطت بالواقع بقدر ما تكون غير يقينية ، و هي بقدر ما تكون يقينية بقدر ما تكون غير مرتبطة بالواقع " ادن المفاهيم الرياضية نسبية اليقين
النقد : بالرغم من أهمية ما وصل اليه العلماء في الرياضيات المعاصرة و تجاوزهم للرياضيات الكلاسيكية و ظهور هندسات جديدة لا نزال نعتمد على الهندسة الاقليدية في البحث العلمي الى يومنا هذا كما أن تحطيم فكرة البداهة لا يعد تحطيما لقيمة و مطلقية الرياضيات فالرياضيات المعاصرة لا تهتم بصحة النتيجة و انما تعتمد على سلامة البرهان الرياضي فقط
تركيب : يمكن أن نؤكد علي أن المفاهيم الرياضية ليست مطلقة دوما كما أنها ليست نسبية دائما ، وإنما هي يقينية من حيث المنهج وأساليب البرهنة ، وهذا الصدق يفرضه الانسجام بين المبادئ والنتائج، وهي نسبية من حيث النتائج من جهة ثانية وعليه فالمفاهيم الرياضية مطلقة إذا نظرنا إليها من زاوية الهندسة الاقليدية ، ونسبية إذا نظرنا إليها من زاوية النسق الاكسيومي.
حسب اعتقادي الشخصي أري بأنه بالفعل المفاهيم الرياضية صحيحة و واضحة في مجالها ونسقها ، فالهندسة الاقليدية أو المعاصرة كلها صحيحة مادامت لا تتعارض مع أساسها الذي انطلقت منه وهو ما عبر عنه بوريل بقوله " إن الرياضي يعرف ماذا يقول من حديث مادام هو الذي يصنع مسلماته وتعريفاته ويشترط علي نفسه ألا يتناقض مع ما سلم به في الأول "
حل المشكلة : نلخّص قولنا أن المفاهيم الرياضية تتميز بالدقة و اليقين وهذا ما جعلها لغة لكل العلوم من ناحية ، أما تعدد الأنساق في العصر الحديث اثري حقيقة العلوم الرياضية مادام ذلك لا يتناقض مع ذاته ، إذن فتعدد الأنساق لا يفقد الرياضيات قيمتها بل هو إثراء وتنوع يجعل منها علما غنيا ، وبفضل الرياضيات استطاعت ان تحول سبل البحت العلمي المعاصرة و نتائجه من الكيفي الى الكم كما هو الحال في الفيزياء و الكيمياء وقصد الوصول الى نتائج اكتر دقة اصبح الفكر العلمي ينطلق من المبادئ ليصل الى النتائج التي توافقها كما ان الرياضيات علم تجريدي لا يبحث عن صدقه من الواقع.
د . شهاب
un grand merci pour vous
ردحذف