القائمة الرئيسية

الصفحات

مقالة المنطق الصوري والمنطق المادي



مقالة المنطق الصوري والمنطق المادي

للاستاذ شهاب

طرح المشكلة : 
لاشكّ أنّ مطلب أيّ انسان عاقل هو التمييز بين الخطأ و الصواب و تسديد عقله نحو طريق الصواب و الحق ، هذا مايذهب اليه المناطقة لذلك وضعوا

مجموعة من القواعد و المبادئ تجسدت في المنطق الصوري  والمادي "الاستقراء"، فكلمة المنطق مشتقة من الكلام و النطق و هي كلمة يونانية الأصل Logos و تعني الفكر أو البرهان و عرّفه ارسطو بآلة العلم كذلك عرّفة جيفونز المنطق هو علم قوانين الفكر ،  إذ يعرف المنطق الصوري بأنه مجموعة قواعد تعصم فكر الإنسان من الوقوع في الخطأ و ارسطو هو من أرسى هاته القواعد الاساسية ، أما الاستقراء فيعرف بأنه منهج استدلالي يعتمد على التجربة كمقياس لصحة القضايا.
ولقد ثار نزاع فكري بين الفلاسفة والمفكرين حول موضوع كيفية تحقيق التفكير السليم ،حيث انقسموا إلى فريقين، فريق أول يري أن الالتزام بقواعد المنطق الصوري هو الذي يضمن لنا التفكير السليم وفريق ثاني يرى أن الالتزام بقواعد المنطق المادي هو الذي يحقق لنا التفكير السليم.                  
وفي ظل هذا النزاع الفكري  نطرح تساؤلنـآ: هل الالتزام بقواعد المنطق الصوري ضمانة كافية لتحقيق التفكير السليم؟.
محاولة حل المشكل :
الموقف الأول :
يري أنصار الموقف الأول أن شروط التفكير السليم شروط منطقية ، فالتفكير السليم هو الذي يتقيد بالقواعد التي وضعها أرسطو في منطقه الصوري ، فمجموع هذه القواعد توجه الفكر نحو الصواب وتجنبه الوقوع في الخطأ، فالمنطق كما أشاد بذلك أرسطو آلة العلم والأداة التي تجعل العقل في انسجام تام مع ذاته وتقوده إلي انطباقه مع نفسه وعليه فان معرفتنا بقواعد المنطق الصوري تجعل فكرنا منسجم ، منظم ، ثابت ومقبول ، ويجب أن نشير كذلك أن ما يجعل تفكيرنا أكثر صواب وتنظيم هو احتكامه إلى مجموع مبادئ عقلية تعرف بمبادئ العقل التي وضعها أرسطو، ومن أنصار هذا الطرح نذكر أرسطو ، الفارابي ، الغزالي.
انطلق هؤلاء من أن قواعد المنطق الصوري لازمة لكل تفكير يصبوا للوصول لليقين ،  فالعقل الفطري مشترك بين البشر و متكون من مبادئ فطرية  هي ما تعرف بمبادئ العقل التي وضعها أرسطو  " أهمّها تتمثل في:  مبدأ الهوية ، مبدأ عدم التناقض، الثالث المرفوع ، و السببية"  و اعتبر مبادئ العقل كافية لكي تتفق العقول حول صحة المعرفة أو خطئها فمثلاً إذا حصلت معرفة متناقضة في نفس الوقت و من نفس الجهة كأن نقول "احمد موجود في القسم و في الساحة " فجميع  العقول تتفق على أن هذه المعرفة خاطئة لان العقل لا يقبلها لاحتوائها على نقيضين  و يقول لايبنتز " إن مبادئ العقل هي عصب وروح الاستدلال وهي ضرورية له كضرورة العضلات والأعصاب للمشي "، ويقول أرسطو " "المنطق آلة العلم  وموضوعه الحقيقي  والأداة التي لابد من معرفتها وإتقانها من طرف أي عالم فهو المبادئ الكلية والعامة والصورية التي ينبغي أن يراعيها الإنسان في علومه ومعارفه فتجنبه الوقوع في الخطأ "
أما الحجة الأخرى التي اعتمد عليها هؤلاء في تبرير موقفهم فهي انه بفضل مباحث المنطق وقواعدها " و التي تتمثل في:  التصور ، الحد ، الحكم ، القضية ، التعريف   و الاستدلال "  نستطيع توضيح كل ما هو غامض ونكتشف المجهول ونميز الأشياء عن بعضها البعض من خلال خصائصها ، يقول الفارابي "هو الصناعة التي تعطي بالجملة القوانين  التي من شانها أن  تقوم العقل وتسدد الإنسان نحو طريق الحق ونحو الصواب في كل ما يمكن أن يغلط فيه من المعقولات "
ويجب أن نشير في هذا المقام إلى أن الغزالي من المؤيدين الذين دافعو عن قيمة المنطق كأداة أساسية للوصول إلى التفكير السليم حيث اعتبر "أن من لا يعرف المنطق فلا ثقة في علمه."
وخلاصة القول أن القواعد المنطقية ومبادئ العقل تعصم ذهن الإنسان من  الوقوع في الخطأ وتساعده على التفكير السليم.


النقد :
 : لقد وفق أصحاب هذا الطرح في عرضهم هذا ، فمن غير الممكن إنكار أهمية وفائدة  المنطق الأرسطي في الفكر والحياة بشكل عام لكن ما يعاب عليهم أنهم بالغو كثيرا في تمجيد لدور المنطق وقيمته، فلقد تعرض المنطق الأرسطي ومناصريه إلى نقد لاذع من قبل مفكرين آخرين ركزوا على سلبياته فمن الانتقادات التي وجهت للمنطق  انه منطق لفظي ، والألفاظ من الممكن أن توقعنا في المغالطات يقول موني موجها نقده للغة المنطقية  " إن اللغة المنطقية الصورية مبهمة ولا يأتي بالجديد ، لان نتائج الاقيسة متضمنة في المقدمات، ما يجعله صالحا للمناقشة والجدل أكثر من البناء " ، و تطور المعرفة العلمية تارخيا اثبث عجز المنطق الصوري من الناحية الواقعية  وهذا ما جعل منتقديه يفكرون في وسيلة أخرى.
الموقف التاني :
 يرى أنصار الموقف الثاني بأن المنطق المادي هو الذي يجعلنا نفكر تفكيرا سليما  وهو الذي يقودنا إلى انطباق الفكر مع الواقع ، وقد انطلق أنصار هذا الموقف من تلك الانتقادات التي وجهت للمنطق الصوري، فهو ليس معيارا للتفكير السليم بمعني انه آلة عقيمة فبرغم معرفتنا له إلا أن العقول لا تتفق  ولعل السبب الرئيسي في عدم حصول الاتفاق هو اللغة الوصفية التي يقوم عليها ، وعليه فقد حاول علماء الطبيعة الاجتهاد ليصطنعوا لنا البديل الذي يوصلنا للتفكير السليم لكن شرط تطابقه مع الواقع فجاء هؤلاء بما يعرف المنطق المادي والذي كشفوا من خلاله عن محدودية المنطق الصوري ووضعوا آليات تفكير جديدة تتوافق مع الواقع بحيث إذا اعتمدنا علي خطواته التي تتجلي في الملاحظة، الفرضية، التجربة و القانون ضمن تطابق الفكر مع الواقع ، ولعل من مناصري هذا الموقف نذكر بيكون، جون ستيوارت ميل.
انطلق هؤلاء  في تبرير موقفهم من كشف مغالطات المنطق الصوري وإبراز قيمة المنطق المادي حيث يقول بيكون في منطق أرسطو: "إن الداء كله يكمن في طريقة الاستنتاج القديمة أي لا يمكن أن تؤدي إلى حقائق جديدة ، فالنتيجة فيها متضمنة في المقدمات وليس هنالك آمل في تقدم العلوم إلا باستخدام طريقة جديدة تؤدي للكشف عن الجديد " و إذا رجعنا إلى التاريخ سنجد أن المنطق الصوري قد سيطر على الفكر البشري و غذي العقول غير انه جعلها مثالية بعيدة عن الواقع بل لم يصاحبها أي تطور من الناحية الواقعية ، فالمنطق الأرسطي لا توجد فيه مبادئ فطرية تساعده على المعرفة إنما التجربة هي التي توصلنا إلى الحقيقة الكامنة وراء الظواهر المادية لهذا لا نعتمد على العقل الساكن إنما العقل المتحرك الذي يسميه لالاند بالعقل المكون فيه المعرفة الحسية تحدث بعد التجربة و يكون أدواته بنفسه لأنه يعتمد على البرهنة التجريبية فالعلم الذي لا يخضع للتجربة ليس علما صحيحا فبالتجربة استطاع الإنسان فهم  الواقع وتسخيره لصالحه، وهذا ما انعكس علي الإنسان ايجابيا وتجاوز بذلك التفكير الخرافي ، و كذلك استطاع الإنسان اكتساب القدرة علي تحليل الوقائع المحسوسة باستخدام المنهج الاستقرائي وقواعده، و تتجلي هذه القواعد كما أشار جون ستيوارت ميل في " قاعدة التلازم في الحضور ، التلازم في الغياب ، التلازم في التغيير ، و طريقة البواقي " فهذه القواعد تساعد العلماء كثيرا في أبحاثهم العلمية وتوصلهم إلي أفكار صادقة وصحيحة، ولعله بفضل خطوات المنهج الاستقرائي أيضا  تمكنا من تفسير الظواهر التي تحدث أمامنا وتسمح بتطابق النتائج مع الواقع، هذه الخطوات تتجلي في : الملاحظة: والتي يقصد بها توجيه الحواس نحوى ظاهرة معينة بغية معرفتها، أما الفرضية فهي تفسير مؤقت لهذه الظاهرة، في حين التجربة هي التحقق من صدق أو كذب هذه الفرضيات أو كذبها أي ملاحظة الظاهرة في ظروف اصطناعية و أخيرا القانون التي هي النتيجة النهائية المتوصل اليها ، وعليه فهذه الخطوات تمنح الفكر الصواب التام بالضرورة .
النقد:
 لقد وفق أصحاب هذا الطرح في عرضهم هذا خاصة و ان العلماء قد حققوا نتائج مهمة بفضل تطبيق المنهج الاستقرائي لكن ما يعاب عليهم أنهم بالغوا كثيرا في عرضهم هذا خاصة وأنهم جعلوا الاستقراء كامل مكمل يخلوا من كل تعارض  في حين نتائجه ظنية وليست يقينية، فالباحث يكتفي بالتجربة في الكثير من الظواهر، ثم يعمم أحكامه وهذا حكم مبالغ فيه ومجازفة بالتأكيد ولعل الشيء الذي نعيبه على المنهج الاستقرائي انّه أهمل دور العقل و الاستنتاج في البحث العلمي 
التركيب: 
إن شروط التفكير السليم والصحيح ينبغي أن تكون منطقية متبعين في ذلك العقل  و تجريبية ملتزمين فيها بقواعد الاستقراء التجريبي ،  وعليه فكل فصل بين الاستدلال الصوري والاستقراء هو أمر صعب للغاية خاصة في الممارسة العملية، وهذا ما أشاد به كارل بوبر الذي يرى أن العمل الاستقرائي يحتاج إلي استنباط منطقي.
حسب اعتقادي الشخصي  أرى بأنه فعلا التفكير السليم هو الذي يجمع بين المنطق الصوري والمنطق المادي الاستقرائي ، إذ لا يمكن الفصل بينهما أو عزلهما عن بعضهما البعض فـ راسل يقول: " يصعب الفصل بين الاستنتاج و الاستقراء" لكن رغم أن المنطق الصوري يبدو صارما في صورته و أن الاستقراء يبدوا اقرب إلى الحقيقة أرى شخصياً أنّ انطباق الفكر مع نفسه هو الأقرب من الاستقراء ، لان الظواهر الطبيعية تتغير وهذا التغير خفي عنا و لا يمكن الوصول إليه بالحواس و لا بالوسائل العلمية بل بالاستنتاج العقل كما هو الحل في قضية الاحتباس الحراري و ثقب الأوزون ، أيضاً و بما أنّي درست الفيزياء لاحظت ان فيزياء اينشتاين  التي هي استنتجات عقلية  اقرب إلى الحقيقة من فيزياء نيوتن الواقعية التي تعتمد على الاستقراء ، و حاليا بعد دراسات كثيرة بوسائل متطوره جداً كانت قوانين انشتاين  أكثر صدقا  .
خاتمة :  
وفي ختام هذا المقال نخلص القول بأنه على المفكر أن لا يتناقض مع ذاته من ناحية ولا مع الواقع من ناحية أخرى ، فحصول التفكير السليم متوقف علي شروط المنطق العقلي المجرد وخطوات المنهج التجريبي العلمي معا، فهذين المنهجين في نهاية المطاف يهدفان لنتيجة واحدة بعد حركة فكرية هادفة وهي بلوغ اليقين و التفكير الصحيح يقول راسل " الاستقراء أسلوب فكري يسير من الخاص إلي العام ، في حين الاستنتاج هو السلوك الفكري الذي يذهب من العام إلي الخاص "

د . شهاب 

reaction:

تعليقات